الدولة التاجرة: رأسمالية بخصائص سورية
على سوريا الجديدة اتباع أفضل ممارسات «رأسمالية الدولة» لإطلاق نهضتها الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين
من واشنطن إلى بكين
شدّ الكثير من الوزراء وصناع القرار ورجال الأعمال رحالهم من بلادهم المختلفة إلى العاصمة الأميركية واشنطن لحضور الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. شهد هذا العام حضور وزراء من الحكومة السورية الجديدة، والتي يسعى مسؤولوها لفتح أول خط اتصال مباشر رفيع المستوى مع الحكومة الأميركية منذ سقوط نظام الأسد.
توجه وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى نيويورك للالتقاء بمسؤولين في الإدارة الأميركية والأمم المتحدة، في حين توجه كل من وزير المالية محمد يسر البرنية ومحافظ البنك المركزي عبد القادر حصرية إلى واشنطن بحثاً عن دعم تقدّمه المؤسسات الدولية لإعادة إعمار سوريا. على رأس جدول أعمال الوفد السوري رفع العقوبات الغربية المضنية (والأميركية في المقام الأول) المفروضة على سوريا، والتي ستَحُول دون أي إعمار جادّ للبلاد. كما يسعى الوفد لتحصيل مساعدة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على شكل مِنَح، وإلا فقروض من نوع ما، لتمويل مهمة الإعمار الجسيمة التي تنتظر السوريين.
الحكومة السورية في وضع لا تُحسَد عليه: فهي مُلزَمة بإعادة بناء البلاد من الصفر، وبتحقيق وعود الحرية والازدهار، ناهيك بالأمان والانتظام، وفي غضون ذلك التعاطي مع بطء الولايات المتحدة - التي تأخذ وقتاً لا تمتلكه سوريا ببساطة - في ما يتعلق بالعقوبات المضنية. والواقع أن لدى الولايات المتحدة هموماً أكبر من الجمهورية العربية الصغيرة الخارجة من النزاع، ولا سيما خلال الحرب التجارية المشتعلة التي أطلقها الرئيس ترامب ضد الصين وبدأت نتائجها تنحرف بعيداً عن المخططات.
ورغم ذلك، تقف الحكومة على مفترق طرق يستلزم التأنّي والتمحيص الاستراتيجي. فبينما تبحث عن موقعها من النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب، عليها أن تفكّر في اقتصادها الناشئ بشكل يحفظ سيادة البلاد على أتم وجه. ثمة رؤى متنافسة في سوريا نفسها حول تثمير الاقتصاد وحماية السيادة في الوقت نفسه. إعلان الحكومة السورية انفتاحها على الاقتصاد العالمي أطلق نوبة ذعر في أوساط كثيرة. كانت المقابلة التي أجراها وزير الخارجية مع طوني بلير في المنتدى الاقتصادي العالمي، أواخر كانون الثاني/يناير، أول مبادرة حكومية رسمية للحديث عن اندماج سوريا في الاقتصاد العالمي. ثمة طبعاً خوف من محاولة القوى والمؤسسات الغربية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فرض «الوصفة النيوليبرالية»، أي بيع الاقتصاد السوري (والتخلي عن سيادته) لمصلحة المستثمرين الأجانب.
وفي المقابل، هناك خوف من عدم الاندماج الاقتصادي، أي البقاء خارج سلاسل التوريد العالمية. قد يعني ذلك انتكاسة البلاد إلى النموذج الاشتراكي المنغلق الذي بنى سلسلة من جمهوريات الموز في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية. كان حكم آل الأسد قريباً في تشدُّده من الحكم الكوري الشمالي، فقد تحوّلت سوريا إلى مزرعة تُدرّ الربح على العائلة الحاكمة وحفنة من رجال الأعمال الموالين لها. اشتراكية الدولة التي سعت في تنمية الاقتصاد انتهت إلى تأسيس واحدة من أشهر عصابات المخدّرات في العالم. ولعل من أبرز المخاطر التي تكتنف الاقتصاد السوري اليوم عودة النخب الريعية التي استفادت كثيراً من انحطاط نظام الأسد، وهي نخب تمتلك الأموال والعلاقات اللازمة لحصد ثمار أي انفتاح اقتصادي متعجّل في سوريا.
«قد تكون النخبة الريعية طبقة اقتصادية منفصلة عن طبقة أصحاب المناصب السياسية، لكن قد يحدث تداخل بين الطبقتين. في سوريا كان التداخل هائلاً. فآل الأسد كانوا هم أنفسهم نخبة ريعية مستفيدة من القبضة الأمنية الحديدية، وكان أشهر رجالها رامي مخلوف، ابن خال بشار، والذي بلغت إمبراطوريته الاقتصادية ذروتها أوائل العقد الأول من القرن وسيطرت على أكثر من 60 بالمئة من الاقتصاد. كان مخلوف الذراع التجاري للحكم المتوحّش. ثم بعد تأمين مصالح نخبته، كان النظام يوزّع المنافع على محاسيبه المخلصين من النخب التجارية. وكان الكثير من رجال الأعمال الطموحين، الراغبين إما في تعظيم ثرواتهم بطرق غير مشروعة، أو ببساطة ضمان حمايتها وتوسعتها، يتقدّمون إلى بلاط آل الأسد لتقديم الخدمات، وكان البلاط يُمسك بثروة الشعب ويوزّعها على محظيّيه مقابل الولاء السياسي المطلق».
الحاجات العملية الملحّة في سوريا تستلزم البحث عن أي وسيلة لرفع العقوبات وإتاحة تدفّق الأموال لإعادة بناء الاقتصاد. ولكن يبقى أن المعونات قصيرة الأجل، مثل مِنَح الأمم المتحدة أو قروض صندوق النقد الدولي، خطيرة على سيادة سوريا واقتصادها الإنتاجي على المدى الطويل. والخطر الأكبر هو أن الوصفات النيوليبرالية ستفرّغ قدرات الدولة بدل أن تُمتّنها وتَشُدّ عَضُدَها، بل إن هذه الوصفات تفترض أن الدولة القوية تتناقض مع الاقتصاد الحيوي. هذا خطأ فادح، كما سنرى بعد قليل.
وفي كل حال، لا يبدو أن الحكومة السورية تسير على غير هدى. هناك إدراك لدى طاقمها الحاكم بأن السيادة تتطلّب اقتصاداً قوياً، وبأن اندماج سوريا في سلاسل التوريد الإقليمية والعالمية لا يعني بيع مواردها وأصولها الوطنية. نتذكّر هنا موقف دمشق خلال المحادثات التجارية مع تركيا مثلاً، والتي سعت من خلالها لرفع مستوى التكامل التجاري والاقتصادي بين البلدين دون تقويض ما تبقى من الصناعات السورية عبر منافسة غير عادلة مع البضائع التركية. كذلك تواصلت دمشق مع حكومة كوريا الجنوبية، حيث قاد وزير الخارجية سيارته بنفسه ليأخذ الوفد الكوري الجنوبي في جولة في شوارع دمشق. كما التقى قتيبة بدوي، رئيس الهيئة العامة للموانئ البرية والبحرية السورية، بمسؤولين من شركة أ-و-ج تكنولوجي الصينية لبحث آفاق الاستثمار والتعاون في البنية التحتية. وفي حال نجحت الحكومة السورية في تثبيت الاستقرار، فربما لن تحتاج لرأس مال غربي، وعندها قد تنجح في تحويل سوريا إلى محطة ضرورية على خطّ التجارة الأوروبية الآسيوية الذي تبنيه الصين.
في ظل النظام العالمي الذي بتنا نعرفه جيداً، لا تحتاج دمشق أية وصفة نيوليبرالية قاهرة مأخوذة من «عقيدة السوق» الشهيرة، والتي يبثّها كبار المتموّلين الدوليين الباحثين عن ريوع وأرباح مستعجلة. كذلك لا تحتاج إلى اشتراكية منغلقة على طريقة الجمهوريات العربية المتهلهلة. على دمشق أن تُلقي بأنظارها إلى الشرق، وأن تجالس دول شرق آسيا وتأخذ عنهم دروساً في الإدارة العامة والتنمية الاقتصادية، وهي الدول ذات النجاح التنموي المدوّي الوحيد من نوعه خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. يمكن ردّ نجاح تلك الدول تحديداً إلى تجنّبها النماذج التنموية التي تعتمدها المؤسسات الغربية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
نموذج الدولة التاجرة
في المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1982، استعمل رئيس الوزراء الصيني آنذاك دنغ شياو بينغ عبارة «الاشتراكية بخصائص صينية» لترويج الإصلاحات الاقتصادية المزمعة. بدت العبارة ملتبسة، لكن الرجل كان يرمي إلى تهدئة الصراعات العقائدية المحتملة بين الشيوعية السياسية التي يتبنّاها الحزب الحاكم والمشاريع الرأسمالية القادمة التي كان يعتزم إطلاقها في البرّ الصيني. ويبدو أن التسوية نجحت. فعلى مدى الأربعين سنة الماضية، قادت الصين نموذجاً فريداً من اقتصاد السوق: عُزلت عدد من الأسواق وتحوّلت إلى مختبرات وأدوات يتعلّم منها الجهاز الحاكم، ما أدى إلى تحسين القدرات الإدارية للدولة، وكان ذلك بديلاً عن تسخير هذه القدرات في خدمة السوق أو بناء سوق كاملة تخدم نفسها بنفسها. أصبحت الصين الآن القوة التقنية والصناعية الأولى على مستوى العالم، وهو أمر بالكاد بدأت الدول الغربية - وخاصة الولايات المتحدة - في استيعابه والتفاعل معه بتخبّط.
لم يختلق شياو بينغ تعبير «الاشتراكية بخصائص صينية» من العدم. فقد كان لجوهر مشروعه آباء مؤسّسون، أو بالأحرى تقليد في التنمية اسمه «رأسمالية الدولة»، أخذته بكين من جيرانها سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان، الذين أخذوه بدورهم من الغرب نفسه. ما فعله شياو بينغ كان إعادة تصميم النموذج بما يناسب احتياجات الصين وغاياتها السياسية. قد تبدو الجمل التالية غريبة لمعظم متابعي الاقتصاد المعاصر، ولكن إذا طرحنا الاستثناء البريطاني جانباً، فإن جذر الازدهار الغربي ليس السوق الحرة، بل الدولة المتينة القادرة على حماية وتغذية الصناعات الاستراتيجية المحلية بما يؤهّلها للمنافسة العالمية. لم يكن فلاسفة ورجال الدولة الأميركية الأولى، مثل ألكسندر هاملتون وهنري كلاي، من دعاة السوق الحرة، بل كانوا رأسماليين دولتيين سعوا في تنمية بلادهم لتحصين صناعاتها الاستراتيجية. ومثلهم فعل «الأوردوليبراليون» الألمان الذين قفزوا ببلادهم وحققوا معجزتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت الأوردوليبرالية نفسها مستمدة من تقليد ألماني طويل لعبت فيه الدولة دور التاجر والصناعي الأكبر، وهو التقليد الذي بدأ مع أوتو فون بسمارك، المؤسس الفعلي للإمبراطورية الألمانية الموحّدة عام 1871.
من الشائع فهم رأسمالية الدولة بوصفها نزعة حمائية تعزل الإنتاج المحلي عن المنافسة، أو بوصفها نموذج استبدال الواردات فحسب. ولكن الدول التي تفوّقت في الزمن الصناعي الحالي اعتمدت على الكثير من التصنيع والتصدير، وليس فقط الإنتاج والاستهلاك الداخليَّين. هذا هو الفرق الأبرز بين الدولة التاجرة الناجحة والفاشلة: استبدال الواردات لا يكفي، وعلى الدولة أن تتعلّم كيف تبيع سلعها وخدماتها وليس فقط كيف تُنتجها.
الاختلاف البارز الآخر هو أن الدول التاجرة الناجحة تفرّق بين «رأس المال الاستراتيجي» و«رأس المال المالي». فالأول يعني العوائد غير النقدية على الاستثمار والنشاط الاقتصادي الخاص، ومنها بناء المنافع العمومية مثل البنية التحتية للنقل العام أو الاتصالات السلكية واللاسلكية أو محطات الطاقة: هذا كله رأس مال استراتيجي. وهكذا فإن اللوائح القانونية والحوافز التشغيلية، وحتى الشركات الحكومية، كلها أدوات تستعملها الدولة في السوق لتحقيق أهدافها العليا، وذلك لمنع القوى الفاعلة ضمن السوق من السعي الأعمى وراء الربح، أي: وراء رأس المال المالي. لقد تحوّلت عدة نظريات اقتصادية، مثل نظرية «الأفضلية النسبية»، إلى سجن لدول كثيرة ما تزال بطيئة النمو، وذلك لأن رأس المال المالي فيها هو الذي يحدّد مكان وكيفية إنشاء الثروة واستهلاكها، ورأس المال هذا بطبيعته يسعى وراء الربح. وحدها الدولة، بوصفها القوة العمومية السيادية، تستطيع التحكّم بشطحات السوق وتوجيه كامل طاقته نحو تسلّق السلّم العالمي واعتلاء سلسلة القيمة.
الميزة الأكبر للاقتصاد الإنتاجي التي تفرّقه عن الاقتصاد الاستخراجي - الذي يهيمن عليه رأس المال المالي وكبار الأثرياء - هو أن الأول يركّز على تنمية «القوى الإنتاجية»، وهو أمر تطرّقنا له في نشرة الوزير بالتفصيل لدى حديثنا عن بناء اقتصاد سياسي عادل في سوريا:
إن بناء اقتصاد سياسي سوري عادل وقوي وحيوي يتطلّب تحفيز الأنشطة الاقتصادية المنتجة، أي تلك المتعلقة بعملية الإنتاج: حشد الموارد لإنتاج مخرجات تكون أكثر قيمة - على الأقل من حيث التبادل - من إجمالي قيمة المدخلات. هذا يشمل جميع العاملين، من المصمّم إلى المهندس إلى الصنّاع المباشرين إلى سائر العاملين في الخدمات الإضافية المرافقة أو اللاحقة للإنتاج.
يبقى الالتباس حول شعار «الاشتراكية بخصائص صينية»، وهو التباس مقصود. هو لا يعني شيئاً ثابتاً، ولكنه يعني ما تحتاج الدولة الصينية منه. وكما أعلن شياو بينغ في عام 1962، قبل عقدين من صعوده إلى سدّة القيادة في الصين: «لا يهم إذا كانت القطة سوداء أو صفراء، المهم أنها تصطاد الفئران».
ثمة الكثير من أشكال التدبير السياسي والدهاء الاقتصادي التي مارستها دول شرق آسيا، الجامعة دوماً بين تنمية قدرات الدولة ودعم النهوض الاقتصادي من خلال المشاريع الحرة، وهذا الجمع يبدو متناقضاً مع نظريات الاقتصاد التقليدية. على الحكومة السورية استكشاف أشكال التدبير والدهاء تلك إذا كانت تبحث عن نموذج جديد للاقتصاد السياسي يؤمّن لسوريا السيادة والازدهار.
من هنا نقترح تسمية نموذج الرأسمالية ذات الخصائص السورية: الدولة التاجرة.
ليست غاية نموذج الدولة التاجرة التوصُّل إلى نظرية أو نموذج كامل للاقتصاد السياسي، بل تحفيز البحث عن نماذج بديلة للنهوض الاقتصادي وترسيخ دور الدولة في صنع الثروة الوطنية، وذلك بعيداً عن كل من النموذج النيوليبرالي المتعثّر طوال الخمسين سنة الماضية، والنموذج الاشتراكي المنغلق الذي ساد الدول العربية المتقدمة لعقود سابقة.
ولا بد هنا أن نكون متواضعين. ما من فرصة قريبة لإطلاق استراتيجية صناعية شبيهة بالاستراتيجيات التي رأيناها في شرق آسيا، ولا لتحوُّل سوريا إلى دولة صناعية قائمة بذاتها. سيعتمد مسار سوريا النهضوي على موقعها الجغرافي الخاص ومواردها الطبيعية والبشرية، وكذلك موقعها الزمني إذا صح التعبير: أنها تنطلق في لحظة خاصة في تاريخ الاقتصاد العالمي تنقلب فيها موازين المال وتنتقل مراكز القوة ببطء من قطبها الغربي إلى أقطاب شرقية عدة. ما تزال القوة الصناعية والعسكرية للجمهورية التركية تتنامى (قد لا تعكس مؤشرات الاقتصاد التركي ذلك الآن، لكن يمكن التنبؤ بصعود المارد الصناعي التركي في أوروبا خلال العشر سنوات القادمة، وبما يخالف جميع التوقعات). ومن جنوب سوريا، نجحت دول الخليج في لعب دور المركز العالمي للتدفقات المالية وتقنيات الطاقة والشحن وتجارة التجزئة.
تمتلك سوريا موارد طبيعية حقيقية، لكنها أقل من أن تعني شيئاً مهماً: النفط والغاز والزراعة والفوسفات. والواقع أن سوريا الحالية هي جغرافيتان مندمجتان في دولة واحدة: ربع بلاد الشام وثلث بلاد الرافدين (الثلثان الآخران موزّعان بين تركيا والعراق). كما أن عدد سكانها صغير أيضاً: حوالي 25-30 مليون نسمة (الإحصاء الأخير يعود إلى بداية الثورة السورية في 2011، وكان حوالي 22 مليون نسمة، وبحسب مؤشّرات النمو السكاني في الإقليم فإن الرقم الآن لا يتجاوز 30 مليون).
وباختصار، ستعتمد نهضة سوريا الاقتصادية ستعتمد على ثلاثة أشياء:
التكامل الاقتصادي الذي يعظّم استفادة سوريا من التوجّهات الإقليمية والعالمية، ولا سيما تحوّلها إلى عقدة مواصلات اقتصادية بين المصانع التركية والتمويل والطاقة الخليجيَّين.
تنمية المواهب السورية لتطوير نموذج اقتصادي ريادي ومبتكر حقاً.
الإدارة العامة الشديدة الكفاءة، ربما على غرار سنغافورة، وهي الإدارة التي ستتولى قيادة السفينة والتأكد من تحقّق النقطتين أعلاه.
الدولة التاجرة هي ما سينبثق عن هذا المزيج.
مقترحات سياسية وبحثية لاقتصاد سوريا السياسي
ندرس في نشرة الوزير مسائل الاقتصاد السياسي للتنمية، مركّزين على سوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ما يلي مقترحات سياساتية مستقاة من أنجح الممارسات حول العالم، وهي مقترحات سنتوسّع في طرحها وتكييفها مع احتياجات سوريا في تقاريرنا المستقبلية. جميع هذه المقترحات تنطلق من مبدأ بناء قدرات الدولة وتوجيه هذه القدرات لتعزيز النموّ الاقتصادي بما يؤمّن لسوريا السيادة والازدهار:
الإصلاح الزراعي: إصلاح الأراضي والتقنيات الزراعية شرط جوهري للتنمية الاقتصادية، ومن مهمات هذا الإصلاح الحد من التفاوت بين السكان، وتوزيع ملكية الأراضي على نطاق أوسع، وتثبيط السلوكيات الريعية الكسولة، ورفع إنتاجية الأرض والعاملين فيها.
الائتمان مقابل الإنتاج: تأميم النظام المصرفي وتحديد حصص ائتمانية للقطاعات الاستراتيجية في سوريا، مثل الزراعة والأدوية والإلكترونيات وغيرها. يجب مراجعة هذه الحصص باستمرار لمكافحة الفساد والهدر، مع تفضيل القطاعات والشركات القادرة على اعتلاء سلسلة القيمة.
التعرفات الجمركية للنهضة الصناعية: حماية القطاعات الاستراتيجية من الواردات المنافسة، بشرط التأكد من قدرتها التنافسية الداخلية (أي الحدّ من الاحتكار من خلال التشريعات وتفضيل الأنجح)، ثم خفض التعرفات الجمركية بشكل تدريجي لتعريض هذه القطاعات لـ«هزّات محسوبة» تختبر قدرتها على المنافسة الخارجية.
صناديق الاستثمار الحكومية: على الدولة أن تتحول إلى مستثمر نشيط، تحدد القطاعات الاستراتيجية التي يمكن للاستثمار أن يخلق فيها أسواقاً ويوفّر فرص عمل ويساعد الاقتصاد السوري على اعتلاء سلسلة القيمة.
الشركات المملوكة للدولة: يجب أن تكون الصناعات والأصول الاستراتيجية مملوكة لشركات مملوكة للدولة، بما يشمل موارد الطاقة والبنية التحتية للنقل والاتصالات. ويجب دعوة السوريين المغتربين وأصدقاء الشعب السوري من ذوي الاطلاع العميق على عمل الشركات الناجحة المملوكة لدول الخليج وسنغافورة والنرويج لتقديم المشورة والتوجيه.
إشراك أبناء الشتات: تشجيع المغتربين السوريين حول العالم على العودة والاستثمار وإطلاق أعمال تجارية في سوريا ومع السوريين. ينبغي توجيه الدعم لتنمية القوى الإنتاجية في سوريا، ولا سيما عبر نقل المعرفة والتكنولوجيا. كما يمكن للإبداع المصرفي والأدوات المالية المبتكرة، مثل «سندات الشتات»، أن تسمح للمغتربين بتجاوز التحويلات والمساعدات المبعثرة، وبالتالي الاستثمار بشكل مباشر في اقتصاد بلادهم جنباً إلى جنب مع الدولة.
برنامج التشغيل الوطني: وهو ورشة أشغال واسعة تستمر 5 سنوات، تشرف عليها وكالة مركزية تابعة لوزارة الاقتصاد وتوزّع الأموال على صنّاع فرص العمل في القطاع الخاص بهدف توظيف العمالة السورية على أكفأ وجه. على صنّاع الفرص أن يعملوا وفق برامج معينة تتعلق بالتجدّد الوطني العام على النحو الذي تحدّده الحكومة، مع التركيز على التشغيل في مجالات البنية التحتية العمومية مثل المباني العامة (المدارس والمكاتب الحكومية وما إلى ذلك) والبنية التحتية للنقل (الطرق والسكك الحديدية والمطارات وما إلى ذلك) وغيرها.
التعليم الفني: لا بد من الإفادة من إخفاقات نموذج التعليم الجامعي الجماهيري في أماكن أخرى. على نظام التعليم الجديد في سوريا تفعيل وتجهيز المدارس المهنية التي تركّز على تعليم الطلاب المهارات اللازمة، ثم منح هذه المدارس أولوية قصوى. وعلى معظم الطلاب إنهاء الدراسة في سن 15-16 عاماً من أجل الدخول في سوق العمل. وعلى الدولة دعم تدريب العمال في أوقات لاحقة من حياتهم المهنية لرفع كفاءاتهم وتحضيرهم للتغيرات التكنولوجية المتلاحقة.
لكن من المسؤول عن تنفيذ كل ذلك؟ الموارد البشرية هي منبع السياسات الأول. سواء كان العزم إجراء إصلاح زراعي، أو تمويل مشاريع بنية تحتية عمومية، أو بناء شركات مملوكة للدولة، أو إنشاء أسواق جديدة، كل ذلك يتطلب دولة متينة القدرات. فالدولة في النهاية هي «مركز القيادة» السيادي الذي تصدر عنه التوجيهات العليا بوصفها «اقتراحات» تتوجه نحوها قوى السوق وتُعدّل بموجبها نشاطها الاقتصادي. الدولة هي المساحة التي تسمح بوجود قوى السوق هذه. أما غياب أو تغييب مركز القيادة هذا، كما في الوصفة النيوليبرالية، فهذا سيعني النيل من سيادة الدولة على مواردها. والدولة المتينة القدرات تعني ببساطة وجود بيرقراطية اقتصادية.
من هنا تحتاج سوريا إلى دراسة البيرقراطيات الاقتصادية الناجحة، ولا سيما في الأمثلة المذكورة أعلاه، لفهم أهمية النهوض الاقتصادي التي تشرف عليه الدولة. وظيفة البيرقراطية الاقتصادية تحديد مواطن ضعف وقوة الاقتصاد على مستوى استراتيجي، وتقييم الاقتصاد العالمي، والبحث في سُبُل دمج سوريا في سلاسل التوريد. لكن ليس هذا فحسب: ستحتاج هذه البيرقراطية الاقتصادية أيضاً تحفيز قوى السوق على اعتلاء سلسلة القيمة، وإيجاد أفضل وأنجع الطرق لذلك. سيعتمد ذلك على تصميم الاقتصاد السياسي المستقبلي في سوريا، وعلى التوازن بين احتياجات المال واحتياجات العمالة، وعلى فرض منطق السيادة والازدهار الوطني على أية تسويات ومقايضات تضطر إليها الدولة.
إن عدم اعتماد نموذج الدولة التاجرة في سوريا سيقود إما إلى انتكاسة نحو الاشتراكية المنغلقة، أو إلى فتح السوق الداخلي لأثرياء العالم وأصحاب الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، وفي الحالتين سيتفشّى الفقر وسيفرّ الشباب على النحو المعروف في بلدان أخرى.
ستسعى نشرة الوزير خلال العام الحالي في رسم ملامح الدولة التاجرة، أي الرأسمالية ذات الخصائص السورية، من خلال متابعة التطورات السياسية والاقتصادية الحاصلة، وأخذ مقترحات السياسة المذكورة أعلاه (مثل الإصلاح الزراعي، والبيرقراطية الاقتصادية، وصناديق الاستثمار الحكومية، إلخ) وطرحها بتفصيل كامل وفق تصوُّر نهضوي بديل وشامل، ومناقشة موقع سوريا وفرصها في موضعة نفسها بالشكل الصحيح بينما تشهد سلاسل التوريد العالمية انقلابات من النوع الجيولوجي.
للمزيد (بالإنكليزية)
مقالات:
كتب:
تزوير الفوردية العالمية، ستيفان جيه لينك
ركل السلم بعيداً، هاتشون جانغ
النظام الوطني للاقتصاد السياسي، قائمة فريدريش
رأسمالية الدولة، جوشوا كورلانتزيك
الدولة الريادية، ماريانا مازوكاتو
كيف تعمل آسيا، جو ستودويل
صنع دولة ريادة الأعمال، راينر كاتيل، وولفغانغ دريشسلر، وإيركي كارو